نظرا للأهمية التي يحتلها المسجد في حياة المسلمين وكونه من أهم المنشآت في المدينة الإسلامية و هو قلبها النابض فقد جاءت العديد من النصوص الشرعية تسن وتنظم و تشرع لعملية بناء المساجد و قد حث النبي – صلى الله عليه و سلم –على بناء المساجد و أن ذلك فيه أجر عظيم ففي الصحيح عن عثمان إبن عفان - رضي الله عنه- أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال :" من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة " (رواه البخارى)
و قد قمت بمحاولة لدراسة هذه النصوص وحصرها فأمكن تقسيمها وفق المحاور التالية:
المحور الأول : إختيار الموقع المناسب لبناء المسجد .
المحور الثانى : توجيه المسجد .
المحور الثالث : إعطاء أولوية للصف الأول .
المحور الرابع : التقليل من عدد السوارى والأعمدة .
المحور الخامس : ما جاء فى تشييد المساجد و زخرفتها.
المحو السادس : اتخاذ المطاهر على أبواب المساجد .
المحور الأول : اختيار الموقع المناسب لبناء المسجد :
من البديهي أنه لبناء أي بناء يجب أولا إختيار الموقع المناسب لإنشائه و ذلك وفق معايير وأسباب وضوابط تتعلق بطبيعة المبنى و وظيفته وبالظروف التي ترافق إنشاءه وهذا الأمر يعتبر من بديهيات وأبجديات العمل المعمارى ، أما المسجد فقد جاءت نصوص شرعية تبين الضوابط التي يجب مراعاتها عند إختيار الموقع الخاص ببناء المسجد . فقد قال تعالى:
"" يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31 (سورة الأعراف), وذكرنا فى تفسير الآية أن المقصود أن توارى السوأة , و قلنا أن من بين ما يجب مراعاته في المسجد أن يكون جواره طيبا و طاهرا من ناحية مادية و معنوية في آن واحد و هنا نقول أنه يجب أن يكون الموقع نظيفا ولاتجاوره فضاءات تنتج عنها أوساخ و غيره ، كما أنه لا يصح أن يكون بجواره فضاءات و نشاطات مخلة بالآداب العامة و الأخلاق و منافية لمبادىء الإسلام ، فإذا كان المكان به هذه النشاطات فلا يصح أن ينشأ المسجد بجنبها والأصح أن نقول أن هذه الأمور يفترض ألا تكون أصلا فى بلاد الإسلام لأنها منافية لمبادئه, و ذلك مراعاة لجانب الخشوع و الوقار والهيبة التى يجب أن تكون للمسجد و درءا للفتنة عن المسلمين وإلا كيف يتصور مثلا أن يأتي جماعة من المسلمين للصلاة و بجوارهم مباشرة مجموعة من البغايا ، كاسيات عاريات في بيوت الدعارة – أجل الله قدركم- أو مجموعة من المخمورين, و ما يتصور أن يصدر منهم من تصرفات وأقوال مشينة , غير أنه لا يجب أن يفهم أن هذا حكم شرعي فنحن لسنا بصدد إصدار الفتاوى لأنه ليس مجالنا ، ففي بلاد الكفر مثلا لا يجد المسلمون متسعا من الأماكن لإقامة مساجدهم حيث شاءوا وهم يعانون حتى يحصلوا على أرض لبناء مسجد و هامش المبادرة أمامهم ضيق في هذا المجال و المعلوم أن الفساد مستشري في بلاد الكفر.
و نود الإشارة إلى قول بعض أهل العلم بعدم جواز الصلاة على الأرض المغصوبة أي لا يصح أن تتخذ لبناء مسجد ،ورد ذلك عن الحافظ العراقي بينما قال الإمام النووي فى شرحه لصحيح الإمام مسلم أن الصلاة فى الأرض المغصوبة صحيحة و لكن لا ينال صاحبها الأجر و الثواب , وهنا نقول ما دام الأمر كذلك وفى أحسن الأحوال لا يسأل المرء عن أداء صلاته و لكنه لا ينال أجرها وثوابها فالأحوط إذن أن تترك الأرض المغصوبة لأنه لا يعقل أن يقبل أى مسلم أن يضيع أجر صلاته خصوصا وأنها عماد الدين. .
المحور الثاني: توجيه المسجد
لعل من بين أهم المعايير التي يراعيها المصمم المعماري عند تصميم أي مبنى هو توجيه هذا المبنى وذلك وفق ضوابط عديدة, مثل اتجاه الشمال وموقع البلاد بالنسبة لخط الإستواء وبالتالى عدد الساعات التى تكون فيها الشمس مواجهة للمبنى, فمثلا بالمناطق الجنوبية الحارة يراعى المصمم أن تكون الواجهة الرئيسية للمبنى غير مواجهة للجهة الجنوبية مباشرة حيث أن الشمس تكون معظم النهار في هذه الجهة, كذلك يراعى اتجاه الرياح فيراعى عدم توجيه المبنى جهة الرياح العاصفة والقوية والحارة, كذلك يعطي المصمم أهمية للجوار فيراعي توجيه المبنى نحو الشوارع أو توجيهه نحو فضاء مجاور له ميزة معمارية أو منظر خلاب سواء كان طبيعيا أو اصطناعيا أو غير ذلك.
أما فيما يخص المساجد فإن توجيهها جاء بتشريع إلاهى, وفي القرآن الكريم, حيث أمر الله تبارك وتعالى نبيه-صلى الله عليه وسلم- بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام وكذلك المؤمنون حيثما كانوا وجب عليهم أن يتوجهوا شطر المسجد الحرام وقبل الكعبة البيت العتيق .قال تعالى :
" قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {144}" (سورة البقرة)
وقد جعل التوجه نحو القبلة من شروط صحة الصلاة, فمن لم يتوجه شطر المسجد الحرام فصلاته غير صحيحة وباطلة , وقد كانت القبلة قبل ذلك إلى بيت المقدس .
وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى تجاه بيت المقدس, فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك, ثم راحوا يرمون الشبهات حول الذين كانوا يصلون قبل بيت المقدس وماتوا فما نقول فيهم, فأنزل الله تبارك وتعالى :"وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {143}" (سورة البقرة )
أي ماكان الله ليضيع صلاتهم التى كانوا يصلونها حين كانت قبلتهم بيت المقدس
إعطاء أولوية للصف الأول عند تصميم المسجد : المحور الثالث
عن عبد الرحمن ابن عوف -رضي الله عنه- ان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:" ان الله وملائكته يصلون على الصف الأول"
مسند الامام أحمد وسنن أبى داوود وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم
جاء في الحديث أيضا عن أبى هريرة –رضى الله عنه – أن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال "لو يعلم الناس مافى النداء والصف الأول, ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" (يستهموا أي يقترعوا بينهم) رواه البخارى
وعن ابن عباس -رضى الله عنهما-قال "عليكم بالصف الاول وعليكم بالميمنة."
(فيض القدير شرح الجامع الصغير للامام المناوى)
الجامع الصغير لجلال الدين " أمنع الصفوف من الشيطان الصف الأول"وقال ابوهريرة -رضى الله عنه- السيوطىوكنز العمال للمتقى الهندى) وقال الإمام المناوى فى شرحه للحديث فى فيض القدير شرح الجامع الصغير "لعل ذلك لكثرة الملائكة حول الإمام فبذلك يضعف سلطان الشيطان وهذا تأكيد على الحث والمحافظة على ملازمته" " (انتهى كلام الإمام) يفهم من هذه الأحاديث التي ذكرناها أن الصف الأول لهو أفضل الصفوف ومن صلى فيه له أجر عظيم خير من أجر ممن صلى فيما سواه .
وما دام الأمر كذلك كان حريا بالمصلين أن يتسابقوا إليه ويبكروا في الذهاب إلى المسجد لتكون لهم حضوة الظفر بمكان فى الصف الأول .
ومن هنا كان لزاما ومستحبا على المصمم أن يراعي هذا الأمر, أي عليه أن يعطي أهمية للصف الأول ويجعله يستوعب أكبر عدد من المصلين, ولايجب عليه أن يهتم بالشكل المعماري للمسجد فقط, لأننا نلاحظ كثيرا فى تصاميم المساجد المعاصرة بأن المصممين يعملون العديد من الأشكال المعمارية وينوعون فيها من زوايا ودوائر وأشكال وهذه عادة ما تكون فى أطراف المسجد أى فى مقدمته أو فى مؤخرته, مما يؤدي إلى ضياع جزء كبير من الصف الأول , ومن ثم حرمان الكثير من المسلمين من هذا الأجر العظيم .
المحور الرابع : التقليل من عدد السواري ( الأعمدة )
من الثابت أن الصلاة في الصف الموصول أفضل من الصلاة في الصف المقطوع وكان النبي – صلى الله عليه و سلم -، إذا أقيمت الصلاة يرص صفوف المصلين و يأمرهم بذلك و بسد الفرجات و يحثهم بأن يصفوا كما تصف الملائكة عند الله تبارك وتعالى و قد ورد عن أنس إبن مالك –رضي الله عنه – أنه قال "نهينا ان نصف بين السوارى" وعن قتادة بن معاوية بن قرة عن أبيه انه قال "كنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نطرد ان نقوم بين السوارى فى الصلاة" (مسند ابو داوود الطيالسى) وعن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال "عليكم بالصف الاول وعليكم بالميمنة وإياكم والصف بين السوارى "(فيض القدير شرح الجامع الصغير للامام المناوى) وعن ابن مسعود -رضى الله عنه- قال "لا تصفوا بين السوارى" (كنز العمال للمتقى الهندى) مما سبق يتبين أنه من الواجب على المصمم أن يحاول قدر الإمكان أن يقلل من عدد الأعمدة والعناصر الإنشائية التي تؤدي إلى قطع الصفوف وعدم انتظامها لأن في انتظام الصفوف و تسويتها تمام الصلاة , خصوصا وأن التقنيات و العلوم الحديثة قد أصبحت تتيح ذلك .
المحور الخامس : ماجاء في تشييد المساجد و زخرفتها
وردت العديد من الأحاديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم – تفيد بالنهي عن تشييد المساجد و زخرفتها أي المبالغة في المباهاة فيها و زخرفتها.
عن ابن عباس –رضى الله عنهما- ان النبى –صلى الله عليه وسلم – قال" ما أمرت بتشييد المساجد" (سنن أبى داوود –التشييد هو التضخيم والمبالغة فى البناء) وقال ابن عباس "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى "
وفى حديث انس ابن مالك –رضى الله عنه- ان النبى –صلى الله عليه وسلم- قال "ابنوا المساجد واتخذوها جما" (سنن البيهقى الكبرى –الجم ما لا مباهاة فيه-)
وعن أنس أيضا ان النبى –صلى الله عليه وسلم – قال "لا تقوم الساعة حتى يتباهى بالمساجد" (سنن ابن ماجة)
وعن أبى سعيد الخدرى –رضى الله عنه – قال " كان سقف المسجد من جريد النخل و امر عمر ببناء المسجد وقال : أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفرفتفتن الناس" (رواه البخارى –الاكنان ما يستر من المطر والشمس ومعنى ان تحمر أو تصفر اى الاكثار من الألوان و الزخارف)
هذه النصوص إذا جمعناها مع بعضها استخلصنا ان النهى عن زخرفة المساجد والمباهاة فيها والمبالغة فى تشييدها إنما جاء لتعارض ذلك مع أهم شعائر الصلاة وهو الخشوع فيها , إضافة الى ان ذلك لا يستقيم ووقار المسجد كون المعالجات المبالغ فيها سواء أكانت زخارف او ألوان تثير انتباه المصلى وتشغل باله وتشده وتجعله ينشغل بها وقد يلتفت يمينا ويسارا لمتابعة هذه الأشكال المتنوعة وهو الأمر الذى يؤثر على صلاة المسلم وخشوعه فيها مما يجعله لا ينال الأجر كاملا فأجر المصلى من صلاته ما عقل منها فقد ورد عن عمار ابن ياسر –رضى الله- عنهما- ان النبى –صلى الله عليه وسلم- قال "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته,تسعها,ثمنها,سبعها,سدسها,خمسها,ربعها,ثلثها,نصفها" (رواه أحمد فى مسنده وأبوداوود فى سننه وابن حبان فى صحيحه)
ومن وجهة نظر تاريخية بحتة وجبت الإشارة أن زخرفة المساجد والمباهاة فيها لم تكن على عهد النبى –صلى الله عليه وسلم- ولا الخلفاء الراشدين من بعده, إنما ظهر هذا الامر عند انتقال الخلافة على دمشق على عهد بنى امية و حيث رأى الخلفاء الأمويون أن الامر يتطلب تشييد مساجد لا تقل روعة عن قصور بيزنطة ولا تقل فخامة عن معابد الديانات الأخرى.
عن أبى الدرداء –رضى الله عنه – قال "إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم" (رواه الترمذي وأورده المتقى الهندى فى كنز العمال)
المحور السادس :اتخاذ المطاهر على أبواب المساجد:
عن وائلة ابن الاسقع –رضى الله عنه- أن النبى –صلى الله عليه وسلم –قال"جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراركم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها فى الجمع" (سنن ابن ماجة والمعجم الكبير للطبرانى)
جنبوا أى أبعدوا و المطاهر هى محال يتوضأ فيها للصلاة ويقضى فيها المحتاج حاجته ,وجمروها بمعنى طيبوها بالبخور, ويراعى عند تصميم وبناء هذه المطاهر وخصوصا بيوت الخلاء الا تكون مستقبلة أو مستدبرة للقبلة للأحاديث والنصوص العديدة الواردة فى هذا الباب .